سورة الأنبياء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعري لما أورد ذلك السؤال على الرسول صلى الله عليه وسلم بقي ساكتاً حتى أنزل الله تعالى هذه الآية جواباً عن سؤاله لأن هذه الآية كالإستثناء من تلك الآية.
وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول وذكرنا أن سؤاله لم يكن وارداً، وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية، وإذا ثبت هذا لم يبق هاهنا إلا أحد أمرين: الأول: أن يقال: إن عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين.
الثاني: أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعري، ثم من قال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهو الحق أجراها على عمومها فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها، لا أن الآية مختصة بهم، ومن قال: العبرة بخصوص السبب خصص قوله: {إِنَّ الذين} بهؤلاء فقط.
أما قوله تعالى: {سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} فقال صاحب الكشاف: الحسنى الخصلة المفضلة والحسنى تأنيث الأحسن، وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة. والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمور خمسة: أحدها: قوله: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فقال أهل العفو معناه أولئك عنها مخرجون، واحتجوا عليه بوجهين:
الأول: قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أثبت الورود وهو الدخول، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج.
الثاني: أن أبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر، لأن تحصيل الحاصل محال، واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور:
أحدها: أن قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك.
وثانيها: أنه تعالى قال: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها.
وثالثها: قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} وقوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} يمنع من ذلك.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن يقال المراد من قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم، ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو، سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب، لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار فإن عندنا المحابطة باطلة ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب.
وعن الثاني: أنا بينا أن قوله: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار.
وعن الثالث: أن قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} مخصوص بما بعد الخروج.
أما قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} فالفزع الأكبر هو عذاب الكفار، وهذا بطريق المفهوم يقتضي أنهم يحزنهم الفزع الأصغر، فإن لم يدل عليه فلا أقل من أن لا يدل على ثبوته ولا على عدمه.
الوجه الثاني: في تفسير قوله: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة، وعلى هذا القول بطل قول من يقول: إن جميع الناس يردون النار ثم يخرجون إلى الجنة، لأن هذه الآية مانعة منه وحينئذ يجب التوفيق بينه وبين قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] وقد تقدم. الصفة الثانية: قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} والحسيس الصوت الذي يحس، وفيه سؤالان: الأول: أي وجه في أن لا يسمعوا حسيسها من البشارة ولو سمعوه لم يتغير حالهم.
قلنا: المراد تأكيد بعدهم عنها لأن من لم يدخلها وقرب منها قد يسمع حسيسها.
السؤال الثاني: أليس أن أهل الجنة يرون أهل النار فكيف لا يسمعون حسيس النار؟
الجواب: إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال. الصفة الثالثة: قوله: {وَهُمْ فِيمَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون} والشهوة طلب النفس للذة يعني نعيمها مؤبد، قال العارفون: للنفوس شهوة وللقلوب شهوة وللأرواح شهوة، وقال الجنيد: سبقت العناية في البداية، فظهرت الولاية في النهاية. الصفة الرابعة: قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} وفيه وجوه:
أحدها: أنها النفخة الأخيرة لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض} [النمل: 87].
وثانيها: أنه الموت قالوا: إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ومعه الموت في صورة كبش أملح فيقول لأهل الدارين أتعرفون هذا فيقولون: لا فيقول هذا الموت ثم يذبحه ثم ينادي يا أهل الجنة خلود ولا موت أبداً، وكذلك لأهل النار، واحتج هذا القائل بأن قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} إنما ذكر بعد قوله: {وَهُمْ فِيهَا خالدون} [البقرة: 25] فلابد وأن يكون لأحدهما تعلق بالآخر، والفزع الأكبر الذي هو ينافي الخلود هو الموت.
وثالثها: قال سعيد بن جبير هو إطباق النارعلى أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، قال القاضي عبد الجبار: الأولى في ذلك إنه الفزع من النار عند مشاهدتها لأنه لا فزع أكبر من ذلك، فإذا بين تعالى أن ذلك لا يحزنهم فقد صح أن المؤمن آمن من أهوال يوم القيامة، وهذا ضعيف لأن عذاب النار على مراتب فعذاب الكفار أشد من عذاب الفساق، وإذا كانت مراتب التعذيب بالنار متفاوتة كانت مراتب الفزع منها متفاوتة، فلا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع من النار.
الصفة الخامسة: قوله: {وتتلقاهم الملئكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} قال الضحاك: هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ويقولون لهم مبشرين: {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.


{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}
اعلم أن التقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء، أو وتتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء. وقرئ يوم تطوى السماء على البناء للمفعول والسجل بوزن العتل والسجل بوزن الدلو وروى فيه الكسر، وفي السجل قولان:
أحدهما: أنه اسم للطومار الذي يكتب فيه والكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على المكتوب، ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، فيكون معنى طي السجل للكتاب كون السجل ساتراً لتلك الكتابة ومخفياً لها لأن الطي ضد النشر الذي يكشف والمعنى نطوي السماء كما يطوى الطومار الذي يكتب فيه.
القول الثاني: أنه ليس اسماً للطومار ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: السجل اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه، وهو مروي عن علي عليه السلام، وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسم كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بعيد؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا معروفين وليس فيهم من سمي بهذا، وقال الزجاج: هو الرجل بلغة الحبشة، وعلى هذه الوجوه فهو على نحو ما يقال: كطي زيد الكتاب واللام في للكتاب زائدة كما في قوله ردف لكم، وإذا قلنا: المراد بالسجل الطومار فالمصدر وهو الطي مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف والتقدير كطي الطاوي السجل، وهذا الأخير هو قول الأكثرين.
أما قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء: انقطع الكلام عند قوله الكتاب ثم ابتدأ فقال: {كَمَا بَدَأْنَا} ومنهم من قال: إنه تعالى لما قال: {وتتلقاهم الملئكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] عقبه بقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} فوصف اليوم بذلك، ثم وصفه بوصف آخر فقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف رحمه الله: {أَوَّلَ خَلْقٍ} مفعول (نعيد) الذي يفسره نعيده والكاف مكفوفة بما والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء، فإن قلت: ما بال خلق منكراً؟ قلت: هو كقولك أول رجل جاءني زيد، تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً، فكذلك معنى أول خلق أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع.
المسألة الثالثة: اختلفوا في كيفية الإعادة فمنهم من قال: إن الله تعالى يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة، ومنهم من قال: إنه تعالى يعدمها بالكلية ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى وهذه الآية دلالة على هذا الوجه لأنه سبحانه شبه الإعادة بالإبتداء. ولما كان الابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم، وجب أن يكون الحال في الإعادة كذلك واحتج القائلون بالمذهب الأول بقوله تعالى: {والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فدل هذا على أن السموات حال كونها مطوية تكون موجودة، وبقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] وهذا يدل على أن أجزاء الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض.
أما قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} ففيه قولان:
أحدهما: أن وعداً مصدر مؤكد لأن قوله: {نُّعِيدُهُ} عدة للإعادة.
الثاني: أن يكون المراد حقاً علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه مع أن وقوع ما علم الله وقوعه واجب، ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله: {إِنَّا كُنَّا فاعلين} أي سنفعل ذلك لا محالة وهو تأكيد لما ذكره من الوعد.
أما قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها يعني الزبور كالحلوب والركوب يقال: زبرت الكتاب أي كتبته والمزبور بضم الزاي جمع زبر كقشر وقشور، ومعنى القراءتين واحد لأن الزبور هو الكتاب.
المسألة الثانية: في الزبور والذكر وجوه:
أحدها: وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد الزبور هو الكتب المنزلة والذكر الكتاب الذي هو أم الكتاب في السماء، لأن فيها كتابة كل ما سيكون اعتباراً للملائكة وكتب الأنبياء عليهم السلام من ذلك الكتاب تنسخ.
وثانيها: الزبور هو القرآن والذكر هو التوراة وهو قول قتادة والشعبي.
وثالثها: الزبور زبور داود عليه السلام، والذكر هو الذي يروي عنه عليه السلام، قال: كان الله تعالى ولم يكن معه شيء، ثم خلق الذكر. وعندي فيه وجه رابع: وهو أن المراد بالذكر العلم أي كتبنا ذلك في الزبور بعد أن كنا عالمين علماً لا يجوز السهو والنسيان علينا، فإن من كتب شيئاً والتزمه ولكنه يجوز السهو عليه فإنه لا يعتمد عليه، أما من لم يجز عليه السهو والخلف فإذا التزم شيئاً كان ذلك الشيء واجب الوقوع.
أما قوله تعالى: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} ففيه وجوه:
أحدها: الأرض أرض الجنة والعباد الصالحون هم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى فالمعنى أن الله تعالى كتب في كتب الأنبياء عليهم السلام وفي اللوح المحفوظ أنه سيورث الجنة من كان صالحاً من عباده وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية وهؤلاء أكدوا هذا القول بأمور: أما أولاً: فقوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 74]، وأما ثانياً: فلأنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت، وغيرهم إذا حصل معهم في الجنة فعلى وجه التبع، فأما أرض الدنيا فلأنها للصالح وغير الصالح.
وأما ثالثاً: فلأن هذه الأرض مذكورة عقيب الإعادة وبعد الإعادة الأرض التي هذا وصفها لا تكون إلا الجنة.
وأما رابعاً: فقد روى في الخبر أنها أرض الجنة فإنها بيضاء نقية.
وثانيها: أن المراد من الأرض أرض الدنيا فإنه سبحانه وتعالى سيورثها المؤمنين في الدنيا وهو قول الكلبي وابن عباس في بعض الروايات ودليل هذا القول قوله سبحانه: {وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ} إلى قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] وقوله تعالى: {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128].
وثالثها: هي الأرض المقدسة يرثها الصالحون، ودليله قوله تعالى؛ {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها التى بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] ثم بالآخرة يورثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام.
أما قوله تعالى: {إِنَّ فِي هذا لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين} فقوله هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة والبلاغ الكفاية وما تبلغ به البغية وقيل في العابدين إنهم العالمون وقيل بل العاملون والأولى أنهم الجامعون بين الأمرين، لأن العلم كالشجر والعمل كالثمر، والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن.
أما قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا، أما في الدين فلأنه عليه السلام بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام، ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والإستكبار وكان التوفيق قريناً له قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء} إلى قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه.
فإن قيل: كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة. وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا} [ق: 9] ثم قد يكون سبباً للفساد.
وثانيها: أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] لا يقال: أليس أنه تعالى قال: {قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] وقال تعالى: {لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات} [الأحزاب: 73] لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه.
وثالثها: أنه عليه السلام كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدع على المشركين، قال: «إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً» وقال في رواية حذيفة: «إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة يوم القيامة».
ورابعها: قال عبد الرحمن بن زيد: {إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] يعني المؤمنين خاصة، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لما بينا أنه كان رحمة للكل لو تدبروا في آيات الله وآيات رسوله، فأما من أعرض واستكبر، فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة لو كان الله تعالى أراد من الكافرين الكفر ولم يرد منهم القبول من الرسول، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه وخلق ذلك فيهم ولم يخلقهم إلا كذلك كما يقوله أهل السنة، لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة وذلك على خلاف هذا النص، لا يقال: إن رسالته عليه السلام رحمة للكفار من حيث لم يعجل عذابهم في الدنيا، كما عجل عذاب سائر الأمم، لأنا نقول: إن كونه رحمة للجميع على حد واحد وما ذكرتموه للكفار فهو حاصل للمؤمنين أيضاً، فإذا يجب أن يكون رحمة للكافرين من الوجه الذي صار رحمة للمؤمنين. وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته صلى الله عليه وسلم كحصولها بعده، بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته أعظم لأن بعد بعثته نزل بهم الغم والخوف منه، ثم أمر بالجهاد الذي فني أكثرهم فيه فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد.
والجواب: أن نقول لما علم الله سبحانه وتعالى أن أبا لهب لا يؤمن ألبتة وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره إياه بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وذلك محال، فكان قد أمره بالمحال. وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة، فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر؟ ولأن قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم، وإن كانت صالحة للضدين توقف للترجيح على مرجح من قبل الله تعالى، قطعاً للتسلسل. وحينئذ يعود الإلزام ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون رحمة للكافر بمعنى تأخير عذاب الاستئصال عنه؟ قوله: أولاً لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين، قلنا: ليس في الآية أنه عليه السلام رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين، فدعواك بكون الوجه واحداً تحكم. قوله نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل قلنا: نعم ولكنه عليه السلام لكونه رحمة للمؤمنين لما بعث حصل الخوف للكفار من نزول العذاب، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار.
المسألة الثالثة: تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة، قالوا: لأن الملائكة من العالمين. فوجب بحكم هذه الآية أن يكون عليه السلام رحمة للملائكة، فوجب أن يكون أفضل منهم.
والجواب: أنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} [غافر: 7] وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين، والرسول عليه السلام داخل في المؤمنين، وكذا قوله تعالى: {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56].


{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
اعلم أنه تعالى لما أورد على الكفار الحجج في أن لا إله سواه من الوجوه التي تقدم ذكرها، وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين، أتبع ذلك بما يكون إعذاراً وإنذاراً في مجاهدتهم والإقدام عليهم، فقال: {قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: إنما يقصر الحكم على شيء أو يقصر الشيء على حكم، كقولك إنما زيد قائم أو إنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية. لأن: {إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ} مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد: {أَنَّمَا إلهكم إله واحد} بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على إثبات وحدانية الله تعالى وفي قوله؛ {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن تخلصوا التوحيد له وأن تتخلصوا من نسبة الأنداد، وفيه أنه يجوز إثبات التوحيد بالسمع.
فإن قيل: لو دلت إنما على الحصر لزم أن يقال: إنه لم يوح إلى الرسول شيء إلا التوحيد ومعلوم أن ذلك فاسد، قلنا: المقصود منه المبالغة، أما قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ على سَوَاء} فقال صاحب الكشاف: آذن منقول من أذن إذا علم ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار، ومنه قوله: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] إذا عرفت هذا فنقول: المفسرون ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: قال أبو مسلم: الإيذان على السواء الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء} [الأنفال: 58] وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر على من أشرك من قريش أن حالهم مخالف لسائر الكفار في المجاهدة، فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك.
وثانيها: أن المراد فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على السواء، فلم أفرق في الإبلاغ والبيان بينكم، لأني بعثت معلماً. والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134].
وثالثها: على سواء على إظهار وإعلان.
ورابعها: على مهل، والمراد أني لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم به بل أمهل وأؤخر رجاء الإسلام منكم.
أما قوله: {وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} ففيه وجهان:
أحدهما: {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} من يوم القيامة، ومن عذاب الدنيا ثم قيل: نسخه قوله: {واقترب الوعد الحق} [الأنبياء: 97] يعني منهما، فإن مثل هذا الخبر لا يجوز نسخه.
وثانيها: المراد أن الذي آذنهم فيه من الحرب لا يدري هو قريب أم بعيد لئلا يقدر أنه يتأخر كأنه تعالى أمره بأن ينذرهم بالجهاد الذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد ولم يعرفه الوقت، فلذلك أمره أن يقول: إنه لا يعلم قربه أم بعده. تبين بذلك أن السورة مكية، وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة.
وثالثها: أن ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة ولا بد أن يلحقهم بذلك الذل والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون، وذلك لأن الله تعالى لم يطلعني عليه.
أما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} فالمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق، لأنه تعالى إذا كان عالماً بالضمائر وجب على العاقل أن يبالغ في الإخلاص.
أما قوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} ففيه وجوه؛ أحدها: لعل تأخير العذاب عنكم.
وثانيها: لعل إبهام الوقت الذي ينزل بكم العذاب فيه فتنة لكم أي بلية واختبار لكم ليرى صنعكم وهل تحدثون توبة ورجوعاً عن كفركم أم لا.
وثالثها: قال الحسن: لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم والفتنة البلوى والاختبار.
ورابعها: لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم، لأن ما يؤدي إلى الضرر العظيم يكون فتنة، وإنما قال لا أدري لتجويز أن يؤمنوا فلا يكون تبقيتهم فتنة بل ينكشف عن نعمة ورحمة.
وخامسها: أن يكون المراد وإن أدري لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت فتنة لكم، لأنه زيادة في عذابكم إن لم تؤمنوا لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه أشد، وإذا متعه الله تعالى بالدنيا يكون ذلك كالحجة عليه.
أما قوله تعالى: {قَالَ رَبّ احكم بالحق} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ: (قل رب أحكم بالحق) على الإكتفاء بالكسرة (ورب احكم) على الضم (وربي أحكم) أفعل التفضيل (وربي أحكم) من الإحكام.
المسألة الثانية: {رَبّ احكم بالحق} فيه وجوه:
أحدها أي ربي اقض بيني وبين قومي بالحق أي بالعذاب. كأنه قال: اقص بيني وبين من كذبني بالعذاب، وقال قتادة: أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89] فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر.
وثانيها: افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم.
أما قوله تعالى: {وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ} ففيه وجهان؛ أحدهما: أي من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب كأنه سبحانه قال: قل داعياً لي: {رَبّ احكم بالحق} وقل متوعداً للكفار: {وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ} قرأ ابن عامر بالياء المنقوطة من تحت، أي قل لأصحابك المؤمنين، وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل، أي من العون على دفع أباطيلهم.
وثانيها: كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخذلهم، قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: {قال رَّبّ احكم بالحق} لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان الغاية لهم وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم، فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق، إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره، وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر فما هو كائن قريب، وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول كالإستعجال للأمر بمجاهدتهم وبالله التوفيق، وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وسلم تسليماً آمين.
وقد عني بتصحيحه ومراجعته والتعليق عليه على النسخة الأميرية المطبوعة في مطبعة بولاق المقر بالعجز والتقصير عبدالله إسماعيل الصاوي عاملة الله بلطفه وجزى الله طابعه حضرة السيد الفاضل عبد الرحمن أفندي محمد صاحب المطبعة البهية أحسن الجزاء وأثابه أجزل الصواب بحرصه على نشر العلم ونفع علماء المسلمين إنه سميع مجيب.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11